( روائع المناظرة، وحجج أهل السُّنَّة الباهرة )
حدَّثنا أبو عبد الله جعفر بن إدريس القزويني قال:-
حدَّثنا أحمد بن الممتنع بن عبد الله القرشي التيمي قال:-
حدَّثنا أبو الفضل صالح بن علي بن يعقوب بن منصور الهاشمي قال:-
حضرت المهتدي بالله أمير المؤمنين -رحمه الله-، وقد جلس ينظر في أمور المسلمين
في دار العامَّة، فنظرتُ إلى قصص النَّاس تُقْرَأُ عليه من أوَّلها إلى آخرها فيأمر بالتَّوقيع فيها،
وإنشاء الكتب لأصحابها، ويختم ويرفع إلى صاحبه بين يديه فسرَّني ذلك.
وجعلت أنظر إليه، فرفع رأسه ونظر إليَّ، فغضضتُ عنه حتَّى كان ذلك مني ومنه مرارًا ثلاثًا!
إذا نظر إليَّ غَضضتُ، وإذا اشتغل نَظَرتُ؛ فقال لي:- (يا صالح!)
فقلت:- لبَّيك يا أمير المؤمنين، وقُمْتُ قَائِمًا، فقال:-
في نفسك منِّي شيء تحب أن تقوله؟ أو قال:- تريد أن تقوله؟
فقلت:- نعم يا سيدي يا أمير المؤمنين، قال لي:- عُدْ إلى موضعك؛ فَعُدتُ،
وعاد في النَّظر، حتَّى إذا قام قال للحاجب:- لا يبرح صالح.
فانصرف النَّاس ثمَّ أذِنَ لي، وقد أهمَّتني نفسي فدخلتُ فدعوتُ له، فقال لي:-
اجلس، فجلست، فقال:- يا صالح، تقول لي ما دار في نفسك،
أو أقول أنا ما دار في نفسي أنَّه دار في نفسك؟
قلت:- يا أمير المؤمنين، ما تعزم عليه، وما تأمر به، فقال:-
أقول: كأنِّي بك وقد استحسنتَ ما رأيت منَّا، فَقَلْتَ:-
أيُّ خليفةٍ خَلِيفَتُنَا، إن لم يكن يقول (القرآن مخلوق)!
فورد على قلبي أمر عظيم، وأهمَّتني نفسي، ثمَّ قلت:-
يا نَفْسُ! هل تموتين إلا مرَّة! وهل تموتين قبل أجلك! وهل يجوز الكذب في جدٍ أو هزلٍ!
فقلت:- والله يا أمير المؤمنين ما دار في نفسي إلا ما قُلْتَ!
فأطرق مليًا، ثمَّ قال لي:-
ويحك! اسمع منِّي ما أقول، فوالله لتسمعنَّ الحقَّ؛ فَسُرِّيَ عنِّي وقُلْتُ:-
يا سيدي ومن أولى بقول الحقِّ منك! وأنت أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين،
وابن عم سيد المرسلين من الأوَّلين والآخرين.
فقال لي:- ما زلتُ أقول (إنَّ القرآن مخلوق) صَدْرًا من خلافة الواثق،
حتَّى أقدم علينا أحْمَدُ بنُ أبِي دُؤَادٍ شيخًا من أهل الشَّام من أهل أذنة،
فَأُدخِلَ الشَّيخ على الواثق مُقَيَّدًا، وهو جَمِيلُ الوجه، تَامُّ القامة، حَسَنُ الشَّيبة.
فَرَأيْتُ الواثق قد استحيى منه، ورقَّ له، فما زال يدنيه ويقربه، حتَّى قَرُبَ منه،
فسلَّم الشَّيخ فأحسن السَّلام، ودعا فأبلغ الدُّعاء وأوجز، فقال له الواثق:- اجلس.
ثمَّ قال له:- يا شيخ، ناظرْ ابْنَ أبِي دُؤَادٍ على ما يناظرك عليه،
فقال الشَّيخ:- يا أمير المؤمنين، ابن أبي دؤاد يقلُّ ويضيق أو يضعف عن المناظرة!
فغضب الواثق، وعاد مكان إكرامه له غضبًا عليه!
فقال:- أبو عبد الله بن أبي دؤاد يضيق أو يقل ويضعف عن مناظرتك أنت!
فقال له الشَّيخ:- هَوِّنْ عليك يا أمير المؤمنين ما بك، وائذن لي في مناظرته.
فقال الواثق:- ما دعوتك إلا للمناظرة!
فقال الشَّيخ:- يا أحمد بن أبي دؤاد ، إلام دعوتَ النَّاس ودعوتني إليه؟
فقال:- إلى أن تقول (القرآن مخلوق)، لأنَّ كلَّ شيء دون الله عزَّ وجلَّ مخلوق!
فقال الشَّيخ:- يا أمير المؤمنين، إنْ رأيتَ أنْ تحفظ عليَّ ما أقول، وعليه ما يقول؟
قال:- أفعل.
فقال الشَّيخ:- يا أحمد، أخبرني عن مقالتك هذه، أواجبة داخلة في عقد الدين،
فلا يكون الدين كاملاً حتى يُقَالَ فيه ما قلتَ؟ قال:- نعم.
فقال الشّيخ:- يا أحمد، أخبرني عن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-
حين بعثَهُ الله عزَّ وجلَّ إلى عباده، هل أسرَّ شيئًا ممَّا أمره الله به في دينه؟ قال:- لا!
قال الشَّيخ:- فدعا رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- الأمَّة إلى مقالتك هذه؟
فسكت ابن أبي دؤاد، فقال الشَّيخ:- تَكَلَّمْ! ، فسكتَ، فالتفت الشَّيخ إلى الواثق فقال:-
يا أمير المؤمنين، واحدة، فقال الواثق:- واحدة.
فقال الشَّيخ:- يا أحمد، أخبرني عن الله عزَّ وجلَّ حين أنزل القرآن على رسوله فقال:-
(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)
كان الله عزَّ وجلَّ الصَّادق في إكمال دينه، أم أنت الصَّادق في نقصانه،
فلا يكون الدين كاملاً حتى يُقَالَ فيه بمقالتك هذه؟
فسكت ابن أبي دؤاد فقال الشَّيخ:- أجبْ يا أحمد! فلم يُجِبْهُ؛ فقال الشَّيخ:-
يا أمير المؤمنين اثنتان ، فقال الواثق:- اثنتان.
فقال الشَّيخ:- أخبرني عن مقالتك هذه، أعَلِمَهَا رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- أم جهلها؟
فقال ابن أبي دؤاد:- عَلِمَهَا، فقال الشَّيخ:- فدعا النَّاس إليها؟
فسَكَتَ ابن أبي دؤاد، فقال الشَّيخ:- يا أمير المؤمنين ثلاث؛ فقال الواثق:- ثلاث.
فقال الشَّيخ:- يا أحمد، فاتَّسع لرسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- إذْ عَلِمَهَا كما زعمتَ!
ولم يُطَالبْ أمَّته بها؟ قال:- نعم!
فقال الشَّيخ:- واتَّسع لأبِي بَكْرٍ اَلْصِّديقِ، و عُمَرَ بْنِ اَلْخَطَّابِ، و عُثْمَانَ وعَلِي؟
فقال ابن أبي دؤاد:- نعم!
فأعرض الشَّيخ عنه، وأقبل على الواثق فقال:-
يا أمير المؤمنين، قد قَدَّمْتُ لك القول أنَّ أحمد يضيق أو يقلُّ أو يضعف عن المناظرة.
يا أمير المؤمنين، إن لم يتَّسع لك من الإمساك عن هذه المقالة،
ما اتَّسع لرسول الله -صلى الله عليه وسلَّم- و لأبي بكر ولعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم؛
فلا وسَّع الله على من لم يتَّسع له ما اتَّسع لهم من ذلك.
فقال الواثق:- نعم إنَّه لم يتَّسع لنا من الإمساك عن هذه المقالة،
ما اتَّسع لرسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- و لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم؛
فلا وسَّع الله علينا! اقطعوا قيد الشَّيخ.
فلمَّا قطعوه، ضرب الشَّيخ بيده إلى القيد ليأخذه فجذبه الجلَّاد عليه، فقال الواثق:-
دَعْ الشَّيخ ليأخذه، فأخذه الشَّيخ فوضعه في كُمِّهِ، فقال الواثق:- لم جاذبت الجلَّاد عليه؟
فقال الشَّيخ:-
لأني نويتُ أنْ أتقدَّم إلى من أُوصِي إليه إذا مِتُّ أنْ يجعله بيني وبين كفني،
حتَّى أخَاصِمَ هذا الظَّالم عند الله -عزَّ وجلَّ- يوم القيامة، ثُمَّ أقولُ:-
يا ربُّ، سَلْ عبدك هذا، لِمَ قيَّدَنِي و روَّعَ أهلي وولدي وإخواني بلا حق أوجب ذلك عليَّ؟
وبكى الشَّيخ وبكى اَلْواثِقُ فبكينا، ثُمَّ سأله الواثق أنْ يَجْعَلَهُ في حِلٍ وسَعَةٍ مِمَّا قال،
فقال الشَّيخ:- والله يا أمير المؤمنين، لقد جعلتُكَ في حِلٍ وسَعَةٍ من أوَّل يوم؛
إكرامًا لرسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- ، إذ كنتَ رجلاً من أهله.
فقال الواثق:- لي إليك حاجة، فقال الشَّيخ:- إنْ كانت ممكنة فعلتُ.
فقال الواثق:- تقيم فينا، فينتفع بك فِتْيَانُنَا.
فقال الشَّيخ:- يا أمير المؤمنين، إنْ رَدَّكَ إيايْ إلى الموضع الذي أخرجني منه هذا الظالم!
أنفع لك من مُقَامِي عندك، وأخبرك بما في ذلك:-
أصير إلى أهلي وولدي فأكفُّ دعاءهم عليك، فقد خلَّفتهم على ذلك.
فقال له الواثق:- فتقبل منَّا ما تستعين بها على دهرك؟
فقال الشَّيخ:- يا أمير المؤمنين، لا تحلُّ لي! أنا عنها غني، و ذو مرَّة سوي.
قال:- فتسأل حاجتك، قال:- أو تقضها يا أمير المؤمنين؟ قال:- نعم.
قال:- تُخْلِي سبيلي إلى الثَّغْرِ السَّاعة، وتأذن لي، قال:- أذنتُ لك، فسلَّم الشَّيخ وخرج.
قال صالح:- قال المهتدي بالله -رحمة الله تعالى عليه- :-
رجعت عن هذه المقالة منذ ذلك اليوم، وأظنُّ الواثق بالله كان قد رجع عنها من ذلك الوقت.
__________________________________________
المصدر:-
(كِتَابُ اَلْشَّرِيعَةُ، للإمام/ أبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ اَلْحُسَيْنِ اَلآجُرِّيِّ-رحمه الله-)
بسم الله الرحمن الرحيم
الله أكبر الله أكبر الله أكبر وما شاء الله على أهل السنة، رحم الله من مات وثبت ونصر من كان حيًا ونفعنا الله بهم
وما أروع لمَّا يعترف المسلم بخطئه ويتوب إلى الله، نستغفر الله ونتوب إليه
كلامهم قليل و فائدته جمة
جميلة جدا ! ومثلها رسالة اسمها الحيدة في مناظرة بين بشر المريسي والإمام عبد العزيز الكناني روعة ! يصلح أن ينشر منها بعضها؛ موفَّق إلى كل خير أيُّها القائم على هذه المؤسَّسة.
الحمد لله رب العالمين
مناظرة جميلة ورائعة نسأل الله أن ينفع بها الجميع
مناظرة قيمة جدا ماشاء الله رحمة الله عليهم
سبحان الله والله أكبر ولله الحمد والمنة . هذا هو دأب الصالحين يرحمك الله يا أحمد بن حنبل وأسكنك الله فسيح جنانه
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان …وزد عن أعراضهم واجعلنا هداة مهتدين لا ضالين ولا مضلين وثبتنا على الحق حتى نلقاك انا وأهلي وذريتي وجميع المسلمين.