إصدارات PDFاللغة العربية

الفارِقة في تمييزِ مذهب أهلِ السنة والخوارِجِ المارِقة PDF الشيخ محمد سعيد رسلان

[الْفَارِقَةُ فِي تَمْييزِ مَذْهَبِ أهْلِ السُّنَّةِ والخَوارِجِ المَارِقَةِ] ” الدعاء على ولي الأمر ، والقارىء محمد جبريل أنموذجًا “

– للشيخ الدكتور/ مُحَمَّد سَعِيد رَسْلَان -حفظه الله-

تحميل الإصدار PDF

تحميل الإصدار مضغوطًا ZIP


[الْخُطْبَةُ الْأُولَى]

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:1].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:70-71].

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَمِنْ عَلَامَاتِ أَهْلِ الْبِدَعِ: اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى اتِّبَاعَ الْهَوَى قَسِيمَ الِاسْتِجَابَةِ لِرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-، وَكُلُّ مَنْ لَمْ يَسْتَجِبْ لِلرَّسُولِ، وَذَهَبَ إِلَى قَوْلٍ مُخَالِفٍ لِقَوْلِ الرَّسُولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-، فَإِنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ إِلَى هُدًى، وَإِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى هَوًى، وَالْقِسْمَةُ ثُنَائِيَّةٌ، إِمَّا اتِّبَاعُ الرَّسُولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- وَإِمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.

وَفِي الْأَمْرِ بِلُزُومِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ فِي ((التَّعْرِيفَاتِ)) لِلْجُرْجَانِيِّ: الْهَوَى: مَيَلَانُ النَّفْسِ إِلَى مَا تَسْتَلِذُّ مِنَ الشَّهَوَاتِ مِنْ غَيْرِ دَاعِيَةِ الشَّرْعِ.

فَاتِّبَاعُ الْإِنْسَانِ لِمَا يَهْوَاهُ هُوَ أَخْذُ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ الَّذِي يُحِبُّهُ، وَرَدُّ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ الَّذِي يُبْغِضُهُ بِلَا هُدًى مِنَ اللهِ.

وَقَدْ جَاءَتِ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ وَمِنْ أَكْبَرِ مَقَاصِدِهَا: إِخْرَاجُ الْمُكَلَّفِ مِنْ دَاعِيَةِ هَوَاهُ حَتَّى يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ اخْتِيَارًا كَمَا هُوَ عَبْدٌ لِلَّهِ اضْطِرَارًا، فَاتِّبَاعُ الْهَوَى مُضَادٌّ لِاتِّبَاعِ الشَّرْعِ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ}.

وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ}.

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ}.

وَمَنْ تَأَمَّلَ رَأَى أَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- لَمْ يَذْكُرِ الْهَوَى فِي كِتَابِهِ إِلَّا فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لَهُ وَلِمُتَّبِعِيهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: مَا ذَكَرَ اللهُ الْهَوَى فِي كِتَابِهِ إِلَّا ذَمَّهُ.

وَهَلْ نَشَأَتِ الْبِدَعُ وَالْمَعَاصِي إِلَّا مِنْ تَقْدِيمِ الْهَوَى عَلَى مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-، بَلْ أَصْلُ الضَّلَالِ اتِّبَاعُ الظَّنِّ وَالْهَوَى، كَمَا قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِيمَنْ ذَمَّهُمْ: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى}؟!

وَقَدْ وَصَفَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- الْكُفَّارَ بِذَلِكَ، وَكُلُّ مَنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَصْفِ فَلَهُ نَصِيبٌ مِنْ مُتَابَعَةِ الْكُفَّارِ بِقَدْرِ ذَلِكَ النَّصِيبِ كَمَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-.

وَمِنْ هُنَا سُمِّيَ أَهْلُ الْبِدَعِ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ؛ لِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ.

وَمِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الزَّيْغِ، كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ، مِنْ هَؤُلَاءِ: الْخَوَارِجُ. كَمَا قَالَ أَبُو أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي ((الْمُصَنَّفِ))، وَالْآجُرِّيُّ فِي ((الشَّرِيعَةِ))، أَنَّهُ ذُكِرَ لَهُ الْخَوَارِجُ وَمَا يُصِيبُهُمْ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَقَالَ: يُؤْمِنُونَ بِمُحْكَمِهِ، وَيَضِلُّونَ عِنْدَ مُتَشَابِهِهِ، وَقَرَأَ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ}.

وَالْأَمْثِلَةُ عَلَى اتِّبَاعِ الْخَوَارِجِ لِلْمُتَشَابِهِ وَتَرْكِهِمُ الْمُحْكَمَ كَثِيرَةٌ كَثِيرَةٌ، ذَكَرَ بَعْضَهَا الْعَلَّامَةُ الشَّاطِبِيُّ فِي ((الِاعْتِصَامِ))، وَهَذَانِ مِثَالَانِ:

الْأَوَّلُ: اسْتِشْهَادُ الْخَوَارِجِ عَلَى إِبْطَالِ التَّحْكِيمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}، فَإِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ صَحِيحٌ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَأَمَّا عَلَى التَّفْصِيلِ فَمُحْتَاجٌ إِلَى بَيَانٍ، وَقَدْ بَيَّنَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- لِلْخَوَارِجِ أَنَّ الْحُكْمَ لِلَّهِ تَارَةً بِغَيْرِ تَحْكِيمٍ، وَتَارَةً بِتَحْكِيمٍ؛ لِأَنَّهُ إِذَا أَمَرَنَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالتَّحْكِيمِ، فَالْحُكْمُ بِهِ –أَيْ: بِالتَّحْكِيمِ- حُكْمٌ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ، وَهُوَ حُكْمُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

فَالْخَوَارِجُ قَطَعُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَنَحْوَهَا مِنْ آيَاتِ التَّحْكِيمِ.

الثَّانِي مِنَ الْمِثَالَيْنِ: اسْتِشْهَادُ الْخَوَارِجِ عَلَى كُفْرِ الْحَاكِمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، وَهَذَا الِاسْتِشْهَادُ لَيْسَ وَلِيدَ عَصْرِنَا، بَلْ خَوَارِجُ عَصْرِنَا رَوَوْهُ بِالْإِسْنَادِ الْمُتَّصِلِ إِلَى شُيُوخِهِمُ الْأَوَّلِينَ، الَّذِينَ خَرَجُوا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ.

أَخْرَجَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ بُكَيْرٍ أَنَّهُ سَأَلَ نَافِعًا: كَيْفَ رَأْيُ ابْنِ عُمَرَ فِي الْحَرُورِيَّةِ (وَهُمُ الْخَوَارِجُ الَّذِينَ خَرَجُوا عَلَى عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَنَزَلُوا حَرُورَاءَ، وَهِيَ بُلَيْدَةٌ أَوْ قَرْيَةٌ بِالْعِرَاقِ فَنُسِبُوا إِلَيْهَا)؟!

فَأَخْرَجَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ بُكَيْرٍ أَنَّهُ سَأَلَ نَافِعًا: كَيْفَ رَأْيُ ابْنِ عُمَرَ فِي الْحَرُورِيَّةِ؟!

قَالَ: يَرَاهُمْ شِرَارَ خَلْقِ اللهِ، إِنَّهُمُ انْطَلَقُوا إِلَى آيَاتٍ أُنْزِلَتْ فِي الْكُفَّارِ فَجَعَلُوهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.

فَسُرَّ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ:

مِمَّا يَتَّبِعُ الْحَرُورِيَّةُ مِنَ الْمُتَشَابِهِ: قَوْلُهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، وَيَقْرِنُونَ مَعَهَا: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}، فَإِذَا رَأَوُا الْإِمَامَ يَحْكُمُ بِغَيْرِ الْحَقِّ، قَالُوا: قَدْ كَفَرَ، وَمَنْ كَفَرَ عَدَلَ بِرَبِّهِ، وَمَنْ عَدَلَ بِرَبِّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ، فَهَذِهِ الْأُمَّةُ مُشْرِكُونَ. فَهَذَا اسْتِدْلَالُهُمْ، فَيَخْرُجُونَ فَيَقْتُلُونَ مَا رَأَيْتَ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ يَعْنِي: عَلَى هَذَا الْوَجْهِ.

وَقَدْ أَخْرَجَ نَحْوَهُ الْآجُرِّيُّ فِي ((الشَّرِيعَةِ)) مِنْ قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي ((التَّمْهِيدِ)) مُقْتَصِرًا عَلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى.

وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، قُلْتُ: فَمَا هَذَا الْكُفْرُ؟!

قَالَ: كُفْرٌ لَا يُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ.

وَسَأَلَهُ نَحْوَ ذَلِكَ ابْنُ هَانِئٍ، فَأَجَابَهُ بِذَلِكَ أَيْضًا.

فَهَذَا مَا عَلَيْهِ السَّلَفُ قَاطِبَةً فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ ثَابِتٌ بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ عَنْ حَبْرِ الْأُمَّةِ وَتُرْجُمَانِ الْقُرْآنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-.

وَمَعَ صَرَاحَةِ مَا جَاءَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ جَمَاعَاتِ السَّلَفِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، إِلَّا أَنَّ الْخَوَارِجَ يَأْبَوْنَ التَّسْلِيمَ لِلصَّحَابَةِ وَتَابِعِيهِمْ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، يَأْبَوْنَ التَّسْلِيمَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَيُصِرُّونَ عَلَى تَكْفِيرِ الْحَاكِمِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَيُجَادِلُونَ بِالْبَاطِلِ، وَيَتَعَلَّقُونَ بِالْمُتَشَابِهَاتِ، فَمَا أَعْظَمَ الْهَوَى الَّذِي رَكِبُوهُ، وَمَا أَسْوَأَ مَا اعْتَقَدُوهُ، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.

أَخْرَجَ الْخَطِيبُ فِي ((تَارِيخِ بَغْدَادَ)) أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْخَوَارِجِ دَخَلَ عَلَى الْمَأْمُونِ، فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: لِمَ تُكَفِّرْنَا؟!

فَقَالَ الْخَارِجِيُّ: لِآيَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، أَوْ: بِآيَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى.

فَقَالَ الْمَأْمُونُ: وَمَا هِيَ؟!

قَالَ الْخَارِجِيُّ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}.

فَقَالَ الْمَأْمُونُ: مَا دَلِيلُكَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةِ فِي كِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؟!

فَتَعَجَّبَ الْخَارِجِيُّ جِدًّا، وَقَالَ: إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ذَلِكَ. أَيْ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهَا فِي كِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

فَقَالَ الْمَأْمُونُ: كَمَا رَضِيتَ إِجْمَاعَهُمْ فِي التَّنْزِيلِ، فَارْضَ بِإِجْمَاعِهِمْ فِي التَّأْوِيلِ.

وَمَعَ إِجْمَاعِهِمْ ذَلِكَ فِي التَّأْوِيلِ وَالَّتفْسِيرِ فَهُنَاكَ دَلَالَةُ اللُّغَةِ، وَفِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.

وَلَكِنْ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ}، فَهَذَا فِيهِ عُمُومٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ سَوَاءٌ كَانُوا حَاكِمِينَ أَوْ مَحْكُومِينَ، فَتَعُمُّ الْحَاكِمَ وَالْقَاضِيَ، وَالْأُسْتَاذَ وَالْمُعَلِّمَ، وَرَبَّ الْبَيْتِ وَالزَّوْجَةَ، وَغَيْرَهُمَا، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ}، فَالْعُمُومُ الْأَوَّلُ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ: {وَمَنْ}، فَهَذِهِ مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ تَعُمُّ جَمِيعَ الْمُخَاطَبِينَ.

الْعُمُومُ الثَّانِي، أَوِ الْوَجْهُ الثَّانِي مِنَ الْآيَةِ فِي الْعُمُومِ: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ: {بِمَا أَنْزَلَ اللهُ}، فَـ (مَا) مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ، فَيَشْمَلُ كُلَّ حُكْمٍ فِي الدِّينِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الشُّرْبُ بِالْيَمِينِ، كَمَا يَدْخُلُ فِيهِ إِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ وَإِحْفَاءُ الشَّارِبِ، وَكُلُّ هَذَا مِمَّا أَمَرَ بِهِ اللهُ وَرَسُولُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-، فَإِذَنْ هُوَ مِمَّا أَنْزَلَ اللهُ.

عَلَى فَهْمِ الْخَوَارِجِ، يَكُونُ الْمُخَالِفُ فِي ذَلِكَ كَافِرًا مُرْتَدًّا، فَالَّذِي يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ عَلَى فَهْمِ الْخَوَارِجِ لِلْآيَةِ يَكُونُ خَارِجًا مِنَ الْمِلَّةِ، وَيُرَتَّبُ عَلَيْهِ جَمِيعُ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّ:

فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ، وَإِذَا مَاتَ، لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُكَفَّنُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَا يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَسْقُطُ وَلَايَتُهُ عَنْ حَرِيمِهِ، وَمَا أَشْبَهَ، وَإِذَا مَاتَ لَهُ أَحَدٌ يَرِثُهُ قَبْلَ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ مَا يُقَامُ عَلَى الْمُرْتَدِّ بِالْقَتْلِ، فَإِنَّهُ لَا يَرِثُ، وَأَيْضًا هُوَ إِذَا مَا أُقِيمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَرِثُهُ مَنْ يَرِثُهُ مِمَّنْ خَلْفَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.

فَهَؤُلَاءِ جَمِيعًا يَتَنَاقَضُونَ هَذَا التَّنَاقُضَ الْعَظِيمَ، وَكُلُّهُ إِنَّمَا جَاءَ بِسَبَبِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْفَهْمِ الْمَغْلُوطِ.

يَقُولُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ}، فَهَاهُنَا عُمُومٌ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ عُمُومٌ فِي الْحَاكِمِ، وَعُمُومٌ فِي الْمَحْكُومِ بِهِ، فَيَدْخُلُ فِيهَا جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْمُخَاطَبِينَ، وَكَذَلِكَ يَدْخُلُ فِيهَا كُلُّ أَحْكَامِ الدِّينِ مِمَّا شَرَعَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-.

فَمَنْ قَالَ بِالْكُفْرِ الْأَكْبَرِ الْمُخْرِجِ مِنَ الْمِلَّةِ الَّذِي يَكُونُ رِدَّةً وَخُرُوجًا مِنَ الدِّينِ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ مَا مَرَّ مِنَ اللَّازِمِ الَّذِي لَا َينْفَكُّ عَنْهُ: أَنَّ كُلَّ مَنْ خَالَفَ فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الشَّرِيعَةِ مَهْمَا كَانَ، سَوَاءٌ حَلَقَ لِحْيَتَهُ، أَوْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ شَارِبِهِ، أَوْ أَكَلَ بِشِمَالِهِ، فَيَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يُرَتَّبَ عَلَى هَذِهِ الْمُخَالَفَاتِ أَحْكَامُ الْكُفْرِ الْأَكْبَرِ، وَهَلْ يَقُولُ بِذَلِكَ عَاقِلٌ؟!

إِذَنْ؛ هُوَ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْزَلَ هَذَا الْكِتَابَ الْمُبِينَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا، فَأَنْزَلَهُ بِهَذِهِ اللُّغَةِ الشَّرِيفَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ بِهَذِهِ اللُّغَةِ الَّتِي أَنْزَلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَا.

وَعِنْدَ التَّفْسِيرِ؛ نُفَسِّرُ الْقُرْآنَ بِالْقُرْآنِ، فَإِنْ لَمْ نَجِدْ فَسَّرْنَا الْقُرْآنَ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ لَمْ نَجِدْ نَرْجِعُ إِلَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، فَإِنْ لَمْ نَجِدْ فَإِنَّنَا نَصِيرُ إِلَى الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ فِي مُنْتَهَى الْأَمْرِ.

وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَلَا يَلْتَزِمُونَ حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً وَلَا حَقِيقَةً لُغَوِيَّةً وَلَا حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً، وَأَلْزِمُوهُمْ بِهَذَا اللَّازِمِ فِي الْعُمُومِ فِي الْآيَاتِ الَّتِي يَسْتَدِلُّونَ بِهَا، وَسَوْفَ تَتَنَزَّلُ الْآيَاتُ عَلَيْهِمْ، عَلَيْهِمْ هُمْ، فَإِنَّنَا لَوْ حَكَّمْنَاهُمْ لِقَانُونِهِمْ لَصَارُوا كَافِرِينَ مُرْتَدِّينَ.

هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ بِالتَّأْوِيلِ حَكَمُوا بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ.

هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَعْتَدُونَ عَلَى أَبْشَارِ الْمُسْلِمِينَ وَأَرْوَاحِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَحْكُمُونَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ.

وَعِنْدَهُمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ حَكَمَ بِأَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ خَالَفَ فِي هَذَا الْأَمْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ، فَهُوَ كَافِرٌ كُفْرًا أَكْبَرَ؛ فَعَلَيْهِ لَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ لَكَفَّرْنَاهُمْ كَمَا كَفَّرُوا عُمُومَ الْمُسْلِمِينَ، لَكِنَّنَا لَا نَفْعَلُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ جُهَّالٌ لَا يَعْلَمُونَ.

إِذَنْ؛ هَؤُلَاءِ لَا يُلْتَفَتُ إِلَى كَلَامِهِمْ فِي دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

وَمِمَّا اتَّبَعَ فِيهِ الْخَوَارِجُ أَهْوَاءَهُمْ، وَأَطَاعُوا فِيهِ شَيَاطِينَهُمْ: الدُّعَاءُ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ، وَالدُّعَاءُ مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ، بَلْ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-: ((الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَغَيْرُهُمْ، بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

(الدُّعَاءُ الْعِبَادَةُ): جُمْلَةٌ مُعَرَّفَةُ الطَّرَفَيْنِ تُفِيدُ الْقَصْرَ، وَاسْتِعْمَالُ ضَمِيرِ الْفَصْلِ يَزِيدُ الْقَصْرَ قَصْرًا: ((الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ)).

وَقَدْ تَوَعَّدَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- مَنْ صَرَفَ هَذِهِ الْعِبَادَةَ لِغَيْرِهِ، تَوَعَّدَهُ بِجَهَنَّمَ مَعَ الذِّلَّةِ وَالصَّغَارِ، فَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} يَعْنِي: عَنْ دُعَائِي. {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}؛ أَيْ: أَذِلَّةً صَاغِرِينَ. فَهَذَا بَعْضُ مَا وَرَدَ فِي شَأْنِ الدُّعَاءِ.

قَالَ فِي ((مُعَامَلَةِ الْحُكَّامِ)): صَلَاحُ وُلَاةِ الْأَمْرِ مَطْلَبٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ غَيُورٍ عَلَى دِينِهِ؛ إِذْ صَلَاحُهُمْ صَلَاحٌ لِلْعِبَادِ وَالْبِلَادِ، كَمَا قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عِنْدَ مَوْتِهِ: ((اعْلَمُوا أَنَّ النَّاسَ لَنْ يَزَالُوا بِخَيْرٍ مَا اسْتَقَامَتْ لَهُمْ وُلَاتُهُمْ وَهُدَاتُهُمْ)). أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي ((السُّنَنِ))، فِي كِتَابِ: قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ. فِي بَابِ: فَضْلِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ. بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَفِيهَا –أَيْ: فِي ((السُّنَنِ))- عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ، قَالَ: ((إِنَّمَا زَمَانُكُمْ سُلْطَانُكُمْ، فَإِذَا صَلَحَ سُلْطَانُكُمْ صَلَحَ زَمَانُكُمْ، وَإِذَا فَسَدَ سُلْطَانُكُمْ فَسَدَ زَمَانُكُمْ)). إِنَّمَا زَمَانُكُمْ سُلْطَانُكُمْ!

وَصَلَاحُ الْوُلَاةِ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَحْدَهُ، فَهُوَ وَحْدَهُ الَّذِي يَقْوَى عَلَى إِصْلَاحِ الْفَاسِدِ، يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، فَكَانَ حَقًّا عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ بِاللَّهِ تَعَالَى وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَدْعُوَ لِوُلَاةِ الْأَمْرِ بِالتَّوْفِيقِ وَالْهِدَايَةِ إِلَى طَاعَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَالسَّيْرِ فِي مَرْضَاتِهِ؛ لِأَنَّ نَفْعَ ذَلِكَ يَعُودُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ بِالْخَيْرِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا.

ذَكَرَ ابْنُ الْمُنَيِّرِ الْمَالِكِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فِي ((الِانْتِصَافِ)) أَنَّهُ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ دَعَا لِسُلْطَانٍ ظَالِمٍ، فَقِيلَ لَهُ: أَتَدْعُو لَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ؟!

فَقَالَ: إِي وَاللَّهِ أَدْعُو لَهُ، إِنَّمَا يَدْفَعُ اللهُ بِبَقَائِهِ أَعْظَمَ مِمَّا يَنْدَفِعُ بِزَوَالِهِ.

وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي ((شُعَبِ الْإِيمَانِ)) عَنْ أَبِي عُثْمَانَ سَعِيدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْوَاعِظِ الزَّاهِدِ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ رِوَايَتِهِ لِحَدِيثِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ مَرْفُوعًا ((الدِّينُ النَّصِيحَةُ))، قَالَ:

فَانْصَحْ لِلسُّلْطَانِ، وَأَكْثِرْ لَهُ مِنَ الدُّعَاءِ بِالصَّلَاحِ وَالرَّشَادِ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَالْحُكْمِ، فَإِنَّهُمْ إِذَا صَلَحُوا صَلَحَ الْعِبَادُ بِصَلَاحِهِمْ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَدْعُوَ عَلَيْهِمْ بِاللَّعْنَةِ، فَيَزْدَادُوا شَرًّا، وَيَزْدَادُ الْبَلَاءُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنِ ادْعُوا لَهُمْ بِالتَّوْبَةِ، فَيَتْرُكُوا الشَّرَّ، فَيَرْتَفِعُ الْبَلَاءُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ.

لَقَدِ اعْتَنَى عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ –الَّذِينَ هُمْ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ- اعْتَنَوْا بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ، بِقَضِيَّةِ الدُّعَاءِ لِوُلَاةِ الْأَمْرِ، اعْتَنَوْا بِهَا عِنَايَةً وَاضِحَةً، وَتَجَلَّتْ فِي صُوَرٍ نَاصِعَةٍ رَائِعَةٍ مِنْهَا:

أَوَّلًا: إِيدَاعُ الْأَمْرِ بِالدُّعَاءِ لِلْوُلَاةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ فِي مُخْتَصَرَاتِ الْعَقَائِدِ السَّلَفِيَّةِ الَّتِي يُطَالَبُ الْمُسْلِمُ بِاعْتِقَادِ مَا فِيهَا، لِكَوْنِهِ مَبْنِيًّا عَلَى الْحُجَجِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ وَإِجْمَاعِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمَرْضِيَّةِ.

ثَانِيًا: تَخْصِيصُ بَعْضِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ مُؤَلَّفًا فِي ذَلِكَ، فَيُصَنِّفُ مُصَنَّفًا فِي الدُّعَاءِ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ، فَقَدْ أَلَّفَ الْإِمَامُ، الْعَلَّامَةُ، الْمُفْتِي، الْمُحَدِّثُ، الرَّحَّالُ، بَقِيَّةُ السَّلَفِ، سَيِّدُ الْمُعَمِّرِينَ الْأَخْيَارِ، عَلَمُ السُّنَّةِ -كَمَا وَصَفَهُ بِذَلِكَ الذَّهَبِيُّ فِي ((مُعْجَمِ الشُّيُوخِ))-، يَحْيَى بْنُ مَنْصُورٍ الْحَرَّانِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْحُبَيْشِيِّ، كَتَبَ كِتَابًا سَمَّاهُ: ((دَعَائِمُ الْإِسْلَامِ فِي وُجُوبِ الدُّعَاءِ لِلْإِمَامِ)).

وَابْنُ الْحُبَيْشِيِّ هَذَا لَهُ مَنَاقِبُ جَمَّةٌ، عَدَّدَ بَعْضَهَا ابْنُ رَجَبٍ فِي ذَيْلِ ((طَبَقَاتِ الْحَنَابِلَةِ))، فَكَانَ مِنْهَا: ((قَوْلُ الْحَقِّ، وَإِنْكَارُ الْمُنْكَرِ عَلَى مَنْ كَانَ))، لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنَ الْمُدَاهَنَةِ وَالْمُرَاءَاةِ شَيْءٌ أَصْلًا، يَقُولُ الْحَقَّ وَيَصْدَعُ بِهِ.

وَذَلِكَ لِيُعْلَمَ أَنَّ عُلَمَاءَ الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ يُؤَلِّفُونَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ، وَيَتَكَلَّمُونَ فِيهَا بَعِيدًا عَنِ الْأَغْرَاضِ الدَّنِيئَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، أَلَّفُوا فِي ذَلِكَ وَتَكَلَّمُوا فِيهِ دِيَانَةً لِلَّهِ تَعَالَى، وَبَيَانًا لِدِينِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَخَوْفًا عَلَى الْأُمَّةِ مِنَ الِاخْتِلَافِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْهَرْجِ وَالْخِلَافِ عَلَى السُّلْطَانِ.

لَمْ يَبْتَغُوا بِذَلِكَ عَرَضًا زَائِلًا، لَمْ يَبْتَغُوا بِذَلِكَ ظِلًّا حَائِلًا، لَمْ يَتَوَصَّلُوا بِذَلِكَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ، وَإِنَّمَا أَدَّوْا مَا عَلَيْهِمْ، يَدْعُونَ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَيُبَرِّئُونَ ذِمَّتَهُمْ، وَيُحَافِظُونَ عَلَى أُمَّتِهِمْ.

فَلَا تَغْتَرَّ بِأُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ التَّأْلِيفِ بَلْ عَنِ الْحَدِيثِ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَيُرْجِفُونَ بِأَنَّ ذَلِكَ مُدَاهَنَةٌ، وَأَنَّهُ مُرَاءَاةٌ، لَا وَاللَّهِ بَلْ هُوَ دِينٌ وَشَرْعٌ.

وَأَمَّا أُولَئِكَ الْمُنَافِقُونَ مِنَ الْمُرْجِفِينَ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ عُلَمَاءُ السُّلْطَانِ. يَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ عُلَمَاءُ ذَيْلِ بَغْلَةِ السُّلْطَانِ. لِأَنَّهُمْ يُبَيِّنُونَ لِلنَّاسِ أَنَّهُ يَنْبَغِي عَلَيْهِمْ أَنْ يَحْتَرِمُوا أُمَرَاءَهُمْ، وَأَنْ يَحْتَرِمُوا عُلَمَاءَهُمْ، وَالْأُمَرَاءُ وَالْعُلَمَاءُ هُمْ أُولُو الْأَمْرِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُطَاعُوا وَأَنْ لَا تُسْقَطَ هَيْبَتُهُمْ.

حَتَّى قَرَّرَ الْفُقَهَاءُ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي مَظَانِّهِ، أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ إِنْسَانٌ ذَيْلَ بَغْلَةٍ مِنَ الْبِغَالِ، فَلَا أَرْشَ عَلَيْهِ، وَالْأَرْشُ كَالتَّعْوِيضِ، فَجَعَلُوا ذَلِكَ هَدَرًا إِذَا وَقَعَ فِي بَغْلَةٍ لِأَحَدٍ مِنْ عَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَحَدٍ، إِلَّا بَغْلَةَ السُّلْطَانِ، فَإِنَّ مَنْ قَطَعَ ذَيْلَ بَغْلَةِ السُّلْطَانِ فَعَلَيْهِ الْأَرْشُ، لِمَاذَا؟!

لِأَنَّهُ لَوْ رَكِبَ بَغْلَةً مِنْ غَيْرِ ذَيْلٍ، لَسَقَطَتْ هَيْبَتُهُ مِنْ أَعْيُنِ الْعَوَامِّ، وَلَدَخَلُوا عَلَيْهِ مَجْلِسَ التَّقَاضِي وَهُمْ مُسْتَخِفُّونَ بِهِ، بَلْ إِنَّ أَلْسِنَتَهُمْ تَنْطَلِقُ فِي حَقِّهِمْ بِمَا لَا يَلِيقُ، وَيَقُولُ قَائِلُهُمْ تُنْظَرُ قَضِيَّتُهُ عِنْدَ ذَلِكَ الْقَاضِي الَّذِي لَهُ بَغْلَةٌ مَقْطُوعَةُ الذَّيْلِ، وَيَتَهَكَّمُونَ عَلَيْهِ، قَالُوا: لَا، فَإِذَا قَطَعَ ذَيْلَ بَغْلَةِ السُّلْطَانِ فَعَلَيْهِ الْأَرْشُ.

لَوْ أَنَّ إِنْسَانًا قَالَ هَذَا لِلْمُسْلِمِينَ لِيَتَّقُوا رَبَّهُمْ، فَهَلْ عَلَيْهِ مِنْ عَابٍ أَوْ عَلَيْهِ مِنْ تَثْرِيبٍ؟!

أَمَّا عِنْدَ الْمُرْجِفِينَ وَالْمُنَافِقِينَ مِنَ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ، فَيَقُولُونَ: حِزْبُ ذَيْلِ بَغْلَةِ السُّلْطَانِ.

عَبَثٌ عَابِثٌ! وَضَلَالٌ مُضِلٌّ! وَاللَّهُ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ!

ثَالِثًا: جَعَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْمُحَقِّقِينَ عَلَامَةَ مَنْ كَانَ سُنِّيًّا سَلَفِيًّا الدُّعَاءَ لِوُلَاةِ الْأَمْرِ، وَعَكْسُهُ مَنْ كَانَ مُبْتَدِعًا ضَالًّا دَعَا عَلَى وُلَاةِ الْأَمْرِ.

قَالَ الْعَلَّامَةُ الْبَرْبَهَارِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فِي ((شَرْحِ السُّنَّةِ)): ((وَإِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ يَدْعُو عَلَى السُّلْطَانِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ صَاحِبُ هَوًى، وَإِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ يَدْعُو لِلسُّلْطَانِ بِالصَّلَاحِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ صَاحِبُ سُنَّةٍ إِنْ شَاءَ اللهُ)).

فَتَرَى هَذَا الِاهْتِمَامَ الْقَوِيَّ مِنَ السَّلَفِ بِالدُّعَاءِ لِوُلَاةِ الْأَمْرِ وَاضِحًا جَلِيًّا، وَهُمْ فِي ذَلِكَ مُتَّبِعُونَ، سَالِمُونَ مِنَ الْهَوَى، مُقَدِّمُونَ لِنُصُوصِ الشَّرِيعَةِ عَلَى حُظُوظِ النَّفْسِ وَمَا تَهْوَى.

وَإِلَيْكَ جُمْلَةً مِمَّا جَاءَ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمَرْضِيِّينَ فِي ذَلِكَ:

أَخْرَجَ الْخَلَّالُ فِي ((السُّنَّةِ)) عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أَنَّهُ قَالَ عَنِ الْأَمِيرِ: إِنَّهُ مُؤَمَّرٌ عَلَيْكَ مِثْلُكَ، فَإِنِ اهْتَدَى فَاحْمَدِ اللهَ، وَإِنْ عَمِلَ بِغَيْرِ ذَلِكَ فَادْعُ لَهُ بِالْهُدَى، وَلَا تُخَالِفْهُ فَتَضِلَّ.

أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي ((السُّنَّةِ)) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي ((الشُّعَبِ))، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: نَهَانَا كُبَرَاؤُنَا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- قَالُوا: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-: ((لَا تَسُبُّوا أُمَرَاءَكُمْ، وَلَا تَغُشُّوهُمْ، وَلَا تُبْغِضُوهُمْ، وَاتَّقُوا اللهَ وَاصْبِرُوا، فَإِنَّ الْأَمْرَ قَرِيبٌ)).

وَمَعْلُومٌ عِنْدَ عُلَمَاءِ أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ النَّهْيَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ.

قَالَ الْإِمَامُ الطَّحَاوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: ((وَلَا نَرَى الْخُرُوجَ عَلَى أَئِمَّتِنَا وَوُلَاةِ أُمُورِنَا وَإِنْ جَارُوا وَظَلَمُوا، وَلَا نَدْعُو عَلَيْهِمْ، وَلَا نَنْزِعُ يَدًا مِنْ طَاعَتِهِمْ، وَنَرَى طَاعَتَهُمْ مِنْ طَاعَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فَرِيضَةً مَا لَمْ يَأْمُرُوا بِمَعْصِيَةٍ، وَنَدْعُو لَهُمْ بِالصَّلَاحِ وَالْمُعَافَاةِ)).

وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي ((الْحِلْيَةِ))، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ يَزِيدَ الْبَغْدَادِيُّ (وَلَقَبُهُ: مَرْدُويَهْ)، قَالَ: سَمِعْتُ الْفُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً، مَا صَيَّرْتُهَا إِلَّا فِي الْإِمَامِ.

قِيلَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ يَا أَبَا عَلِيٍّ؟! (وَهِيَ كُنْيَةُ الْفُضَيْلِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-).

قَالَ: مَتَى صَيَّرْتَهَا فِي نَفْسِي، لَمْ تَعْدُنِي؛ لَمْ تَتَجَاوَزْنِي، وَمَتَى صَيَّرْتُهَا فِي الْإِمَامِ، يَعْنِي: عَمَّتْ. فَصَلَاحُ الْإِمَامِ صَلَاحُ الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ.

فَقَبَّلَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ جَبْهَتَهُ، وَقَالَ: يَا مُعَلِّمَ الْخَيْرِ، وَمَنْ يُحْسِنُ هَذَا غَيْرُكَ؟!

وَأَخْرَجَ الْخَلَّالُ فِي ((السُّنَّةِ)) عَنْ حَنْبَلٍ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ قَالَ عَنِ الْإِمَامِ عَنِ الْمُتَوَكِّلِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: وَإِنِّي لَأَدْعُو لَهُ بِالتَّسْدِيدِ وَالتَّوْفِيقِ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالتَّأْيِيدِ، وَأَرَى ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَيَّ.

يَرَى الدُّعَاءَ لَهُ بِالْخَيْرِ وَالتَّسْدِيدِ وَالتَّأْيِيدِ وَالتَّوْفِيقِ وَاجِبًا عَلَيْهِ.

وَأَخْرَجَ أَيْضًا –يَعْنِي: الْخَلَّالَ فِي ((السُّنَّةِ))- عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْمَرُّوذِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ، وَذَكَرَ الْخَلِيفَةَ الْمُتَوَكِّلَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وَلَقَبُهُ (نَاصِرُ السُّنَّةِ)، فَقَالَ عِنْدَمَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، قَالَ: إِنِّي لَأَدْعُو لَهُ بِالصَّلَاحِ وَالْعَافِيَةِ.

وَقَالَ: لَئِنْ حَدَثَ بِهِ حَدَثٌ، لَتَنْظُرُنَّ مَا يَحِلُّ بِالْإِسْلَامِ.

لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَنْظُرُونَ إِلَّا تَحْتَ أَقْدَامِهِمْ، فَقَالَ: ارْفَعُوا رُءُوسَكُمْ، انْظُرُوا إِلَى بَعِيدٍ، اسْتَشْرِفُوا انْظُرُوا إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ الْقَرِيبِ لَا الْبَعِيدِ، فَإِنْ حَدَثَ لَهُ حَدَثٌ، لَتَنْظُرُنَّ مَا يَحِلُّ بِالْإِسْلَامِ.

قَالَ أَبُو عُثْمَانَ الصَّابُونِيُّ فِي ((عَقِيدَةِ السَّلَفِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ)): وَيَرَوْنَ الدُّعَاءَ لَهُمْ –أَيْ: لِلْأَئِمَّةِ لِلْحُكَّامِ- بِالْإِصْلَاحِ وَالتَّوْفِيقِ وَالصَّلَاحِ وَبَسْطِ الْعَدْلِ فِي الرَّعِيَّةِ.

وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَرْبَهَارِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فِي ((شَرْحِ السُّنَّةِ)): فَأُمِرْنَا أَنْ نَدْعُوَ لَهُمْ بِالصَّلَاحِ، وَلَمْ نُؤْمَرْ أَنْ نَدْعُوَ عَلَيْهِمْ وَإِنْ ظَلَمُوا وَجَارُوا؛ لِأَنَّ ظُلْمَهُمْ وَجَوْرَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَصَلَاحَهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِلْمُسْلِمِينَ.

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي ((اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ)): وَيَرَوْنَ الدُّعَاءَ لَهُمْ بِالصَّلَاحِ وَالْعَطْفِ إِلَى الْعَدْلِ –أَيْ: وَالْمَيْلِ إِلَيْهِ-، فَحَقِيقٌ عَلَى كُلِّ رَعِيَّةٍ أَنْ تَرْغَبَ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي إِصْلَاحِ السُّلْطَانِ، وَأَنْ تَبْذُلَ لَهُ نُصْحَهُ، وَتَخُصَّهُ بِصَالِحِ دُعَائِهَا، فَإِنَّ فِي صَلَاحِهِ صَلَاحَ الْعِبَادِ وَالْبِلَادِ، وَفِي فَسَادِهِ فَسَادَ الْعِبَادِ وَالْبِلَادِ.

قَالَ الْآجُرِّيُّ فِي كِتَابِ ((الشَّرِيعَةِ)): وَقَدْ ذَكَرْتُ مِنَ التَّحْذِيرِ مِنْ مَذَاهِبِ الْخَوَارِجِ مَا فِيهِ بَلَاغٌ لِمَنْ عَصَمَهُ اللهُ عَنْ مَذَاهِبِ الْخَوَارِجِ وَلَمْ يَرَ رَأْيَهُمْ، فَصَبَرَ عَلَى جَوْرِ الْأَئِمَّةِ، وَدَعَا لِلْوُلَاةِ بِالصَّلَاحِ، وَحَجَّ مَعَهُمْ، وَجَاهَدَ مَعَهُمْ كُلَّ عَدُوٍّ لِلْمُسْلِمِينَ، فَصَلَّى خَلْفَهُمُ الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَيْنِ، فَمَنْ كَانَ هَذَا وَصْفَهُ، كَانَ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ إِنْ شَاءَ اللهُ.

فَهَا أَنْتَ تَرَى عُلَمَاءَنَا الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ سَلَفِنَا الصَّالِحِينَ يَجْعَلُونَ هَذَا فِي كُتُبِ الِاعْتِقَادِ، وَيَدْعُونَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْأَخْذِ بِهَذَا الْأَصْلِ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ لِيُجَانِبُوا الْخَوَارِجَ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الرَّأْيِ الْمَذْمُومِ وَالِاعْتِقَادِ الْمَرْذُولِ.

عِنْدَمَا تَقُولُ هَذَا الْكَلَامَ الَّذِي وَرِثْتَهُ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ عَنْ عُلَمَائِكَ الْمُتَقَدِّمِينَ الَّذِينَ عَلُّوا وَنَهَلُوا مِنْ مَعِينِ السُّنَّةِ الصَّافِي مِمَّا جَاءَ إِلَيْهِمْ مُتَحَدِّرًا كَالْغَمَامِ بِمَاءٍ طَهُورٍ مِنَ الصَّحَابَةِ عَنِ الرَّسُولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-، عِنْدَمَا تَقُولُ هَذَا، يَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ عَبَدَةُ الطَّاغُوتِ، هَؤُلَاءِ أَحْذِيَةُ السَّلَاطِينِ!!

تَحَمَّلُوا -إِذَنْ- إِثْمَ الْأَعْرَاضِ الْمُنْتَهَكَةِ، وَالْأَبْشَارِ الَّتِي جُرِحَتْ، وَالْأَنْفُسِ الَّتِي أُزْهِقَتْ، وَالْأَمْوَالِ الَّتِي بُعْثِرَتْ وَنُهِبَتْ، وَالْأَرْضِ الَّتِي سُلِبَتْ، وَالدِّيَارِ الَّتِي هُدِّمَتْ، … .

تَحَمَّلُوا إِثْمَ الْخَرَائِبِ الَّتِي تَنْعَقُ عَلَيْهَا الْغِرْبَانُ فِي نَوَاحِي دِيَارِ الْإِسْلَامِ.

تَحَمَّلُوا إِثْمَ الْفَوْضَى.

تَحَمَّلُوا ضَيَاعَ بُلْدَانِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَمَا نَعِمَتْ فِي ظِلِّ الْإِسْلَامِ بِالتَّوْحِيدِ وَالسُّنَّةِ، وَإِنْ شَابَ ذَلِكَ مَا شَابَهُ.

تَحَمَّلُوا إِثْمَ ضَيَاعِهَا لِيَسْتَوْلِيَ عَلَيْهَا أَعْدَاءُ الدِّينِ الَّذِينَ يُبْغِضُونَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- وَيُبْغِضُونَ الْقُرْآنَ، وَيُبْغِضُونَكُمْ يَا أَهْلَ السُّنَّةِ.

يَقُولُونَ: الدِّيمُقْرَاطِيَّةُ.. وَلَا بُدَّ أَنْ نَقُولَ رَأْيَنَا، وَأَنْ نُعَبِّرَ عَمَّا يَعْتَمِلُ بَيْنَ جَوَانِحِنَا. يَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ، يَدَعُونَ الدُّرَّ وَيَلْتَقِطُونَ الْبَعْرَ، مَاذَا يَصْنَعُونَ؟! يَتَّبِعُونَ شِرْعَةَ الْغَرْبِيِّينَ مِمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ دِينٍ، وَيَتْرُكُونَ دِينَ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-؟!

سُئِلَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ بَازٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-، وَهُوَ مِنَ الْمُعَاصِرِينَ، لِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ مَضَى مِنْ مَنْشَئِهِ مِنْ مَنْبَعِهِ، وَسَيَظَلُّ مَاضِيًا سَارِيًا كَالْمَاءِ الطَّهُورِ فِي نَهْرِهِ إِلَى مَصَبِّهِ حَتَّى يَرِثَ اللهُ الْأَرْضَ وَمَا وَمَنْ عَلَيْهَا، سُئِلَ: هَلْ مِنْ مُقْتَضَى الْبَيْعَةِ –حَفِظَكَ اللهُ تَعَالَى- الدُّعَاءُ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ؟!

فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ:

مِنْ مُقْتَضَى الْبَيْعَةِ: النُّصْحُ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ، وَمِنَ النُّصْحِ: الدُّعَاءُ لَهُ بِالتَّوْفِيقِ وَالْهِدَايَةِ وَصَلَاحِ النِّيَّةِ وَالْعَمَلِ وَصَلَاحِ الْبِطَانَةِ؛ لِأَنَّ مِنْ أَسْبَابِ صَلَاحِ الْوَالِي وَمِنْ أَسْبَابِ تَوْفِيقِ اللهِ لَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَزِيرُ صِدْقٍ يُعِينُهُ عَلَى الْخَيْرِ، وَيُذَكِّرُهُ إِذَا نَسِيَ، وَيُعِينُهُ إِذَا ذَكَرَ.

هَذِهِ مِنْ أَسْبَابِ تَوْفِيقِ اللهِ تَعَالَى لَهُ، فَالْوَاجِبُ عَلَى الرَّعِيَّةِ وَعَلَى أَعْيَانِ الرَّعِيَّةِ التَّعَاوُنُ مَعَ وَلِيِّ الْأَمْرِ فِي الْإِصْلَاحِ، وَإِمَاتَةِ الشَّرِّ وَالْقَضَاءِ عَلَيْهِ، وَإِقَامَةِ الْخَيْرِ بِالْكَلَامِ الطَّيِّبِ وَالْأُسْلُوبِ الْحَسَنِ وَالتَّوْجِيهَاتِ السَّدِيدَةِ الَّتِي يُرْجَى مِنْ وَرَائِهَا الْخَيْرُ دُونَ الشَّرِّ.

وَكُلُّ عَمَلٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ شَرٌّ أَكْثَرُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْوَلَايَاتِ كُلِّهَا تَحْقِيقُ الْمَصَالِحِ الشَّرْعِيَّةِ، وَدَرْءُ الْمَفَاسِدِ، فَأَيُّ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ الْإِنْسَانُ يُرِيدُ بِهِ الْخَيْرَ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَا هُوَ شَرٌّ مِمَّا أَرَادَ إِزَالَتَهُ وَمَا هُوَ مُنْكَرٌ، فَعَمَلُهُ لَا يَجُوزُ.

سُئِلَ: وَمَنْ يَمْتَنِعُ عَنِ الدُّعَاءِ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ –حَفِظَكَ اللهُ-؟!

قَالَ: هَذَا مِنْ جَهْلِهِ وَعَدَمِ بَصِيرَتِهِ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ وَمِنْ أَفْضَلِ الطَّاعَاتِ، وَمِنَ النَّصِيحَةِ لِلَّهِ وَلِعِبَادِهِ، وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا قِيلَ لَهُ: إِنَّ دَوْسًا عَصَتْ (وَهُمْ كُفَّارٌ)، قَالَ: ((اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَائْتِ بِهِمْ)). فَهَدَاهُمُ اللهُ وَأَتَوْا مُسْلِمِينَ.

فَالْمُؤْمِنُ يَدْعُو لِلنَّاسِ بِالْخَيْرِ، وَالسُّلْطَانُ أَوْلَى مَنْ يُدْعَى لَهُ؛ لِأَنَّ صَلَاحَهُ صَلَاحٌ لِلْأُمَّةِ، فَالدُّعَاءُ لَهُ مِنْ أَهَمِّ الدُّعَاءِ، وَمِنْ أَهَمِّ النُّصْحِ أَنْ يُوَفَّقَ لِلْحَقِّ وَأَنْ يُعَانَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُصْلِحَ اللهُ لَهُ بِطَانَتَهُ، وَأَنْ يَكْفِيَهُ اللهُ شَرَّ نَفْسِهِ، وَشَرَّ جُلَسَاءِ السُّوءِ.

فَالدُّعَاءُ لَهُ بِالتَّوْفِيقِ وَالْهِدَايَةِ، وَبِصَلَاحِ الْقَلْبِ وَالْعَمَلِ وَصَلَاحِ الْبِطَانَةِ مِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ، وَمِنْ أَفْضَلِ الْقُرُبَاتِ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أَنَّهُ قَالَ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّ لِي دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً، لَصَرَفْتُهَا لِلسُّلْطَانِ. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ أَيْضًا.

رَحِمَ اللهُ سَلَفَنَا أَجْمَعِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

[الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ]

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ عُلَمَاءَنَا –تَأْسِيسًا عَلَى نُصُوصِ دِينِنَا مِنْ كِتَابِ رَبِّنَا وَسُنَّةِ نَبِيِّنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ– قَرَّرُوا أَنَّنَا مَا أُصِبْنَا بِشَرٍّ إِلَّا مِنْ أَنْفُسِنَا، وَأَنَّهُ مَا نَزَلَ بِنَا بَلَاءٌ إِلَّا بِسَبَبِ ذُنُوبِنَا، فَمَا مِنْ بَلَاءٍ يَنْزِلُ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَلَا يُرْفَعُ بَلَاءٌ إِلَّا بِتَوْبَةٍ، فَعَرَفُوا الطَّرِيقَ.

عُلَمَاؤُنَا نَظَرُوا إِلَى كَلَامِ رَبِّنَا، وَإِلَى سُنَّةِ نَبِيِّنَا، وَتَأَمَّلُوا فِي حَالِ الْأُمَّةِ وَفِي حَالِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، وَاسْتَخْرَجُوا لَنَا الدُّرَرَ مِنْ أَعْمَاقِ الْبِحَارِ، فَمَهْمَا وَجَدْتُمْ مِنْ حُكَّامِكِمْ مَا تَكْرَهُونَ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ، فَلِمَاذَا لَا تُصْلِحُونَ أَنْفُسَكُمْ؟!

وَكَمَا تَكُونُوا يُوَلَّى عَلَيْكُمْ!

فَيَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَعْرِفَ هَذَا مَعْرِفَةً صَحِيحَةً، وَأَنْ نَجْتَهِدَ فِي إِصْلَاحِ أَنْفُسِنَا، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَنَا الطَّرِيقَ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}.

لَمْ يَقُلْ رَبُّنَا: ((حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِحُكَّامِهِمْ)) أَوْ: ((حَتَّى يُغَيِّرُوا حُكَّامَهُمْ)). وَإِنَّمَا قَالَ: {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}.

الْإِخْوَانُ الْمُسْلِمُونَ سَبَبُ الْبَلَاءِ وَالشَّرِّ فِي الْأُمَّةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، يَتَلَوَّنُونَ كَالْحِرْبَاءِ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمَصْرٍ، وَمَعَ كُلِّ نِظَامٍ وَحُكْمٍ، لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً، فَتَارَةً يَرَوْنَ الدِّيمُقْرَاطِيَّةَ كُفْرًا وَوَبَالًا مَاحِقًا بِالْأُمَّةِ. وَتَارَةً يَقُولُونَ: لَمْ يَصِلِ الْعَقْلُ الْإِنْسَانِيُّ فِي عَصْرٍ مِنَ الْعُصُورِ إِلَى مِثْلِ الْحُكْمِ الدِّيمُقْرَاطِيِّ، وَسَنَحْتَكِمُ إِلَى الصُّنْدُوقِ، وَيَأْتِي مَنْ يَأْتِي مِنَّا بِالصُّنْدُوقِ، وَنَحْتَكِمُ إِلَى النَّاخِبِينَ!!

حَتَّى قَالَ ضَالٌّ مِنْ ضُلَّالِهِمُ الْكِبَارِ –وَهُوَ عِصَامٌ الْعُرْيَانُ زَادَهُ اللهُ عُرْيًا-، وَقَدْ قِيلَ لَهُ: لَوْ أَنَّ الصُّنْدُوقَ أَتَى بِبُوذِيٍّ يَحْكُمُ الْبِلَادَ، فَهَلْ تُوَافِقُونَ عَلَيْهِ؟!

قَالَ: مَا دَامَ قَدْ جَاءَ بِالصُّنْدُوقِ فَنَحْنُ نُوَافِقُ عَلَيْهِ.

كَمَا قَالَ مُرْشِدُهُمُ السَّابِقُ -أَوِ الْأَسْبَقُ، اللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَدُورُ فِي الْكُهُوفِ الْمُظْلِمَةِ وَتَحْتَ الْأَرْضِ- قَالَ مَهْدِي عَاكِف (وَهُوَ عَاكِفٌ لَا عَلَى الْهِدَايَةِ وَإِنَّمَا عَلَى ضِدِّهَا)، قَالَ: إِنَّا لَنَتَعَاوَنُ مَعَ الشَّيْطَانِ مِنْ أَجْلِ مَصْلَحَةِ الْجَمَاعَةِ.

يَسْتَنْزِلُونَ اللَّعَنَاتِ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، يَضِلُّ الضَّالُّ بِسَبَبِ ضَلَالِهِمْ، عَلَّمُوا الْأُمَّةَ كَيْفَ تَخْرُجُ عَلَى الْأَئِمَّةِ، وَعَلَّمُوا الشَّبَابَ فِي هَذَا الْعَصْرِ مَعَ الصَّلِيبِيِّينَ مِنَ الْأَمْرِيكِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، فَأُرْسِلَ الشَّبَابُ فِي مُؤَسَّسَاتِ وَمُنَظَّمَاتِ الْمُجْتَمَعِ الْمَدَنِيِّ إِلَى صِرْبِيَا لِيَعُودُوا بِحَرَكَةِ السَّادِسِ مِنْ إِبْرِيلَ!

الشِّعَارُ هُوَ الشِّعَارُ، وَالْمَبَادِئُ هِيَ الْمَبَادِئُ!

وَآخَرُونَ يَذْهَبُونَ إِلَى مُنَظَّمَاتِ الْمُجْتَمَعِ الْمَدَنِيِّ الصُّهْيُونِيَّةِ فِي أَمِرِيكَا نَفْسِهَا وَفِي غَيْرِهَا، فَعَلَّمُوا الشَّبَابَ كَيْفَ يَصْنَعُ الثَّوَرَاتِ، وَيَخْرُجُ عَلَى الْحُكَّامِ، وَيَعِيثُ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ.

وَهُوَ شَبَابٌ فِي الْجُمْلَةِ لَمْ يَنْتَمِ إِلَى أَرْضٍ وَلَا عِرْضٍ، وَلَا دِينٍ وَلَا عَقِيدَةٍ، وَإِنَّمَا صَنَعُوهُ عَلَى أَعْيُنِهِمْ، فَحَرَّكَ كَمَا يَشَاءُونَ، وَوَصَلَ إِلَى مَا يُرِيدُونَ، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.

قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: ((وَتَأَمَّلْ حِكْمَتَهُ تَعَالَى فِي أَنْ جَعَلَ مُلُوكَ الْعِبَادِ وَأُمَرَاءَهُمْ وَوُلَاتَهُمْ مِنْ جِنْسِ أَعْمَالِهِمْ، بَلْ كَأَنَّ أَعْمَالَهُمْ ظَهَرَتْ فِي صُوَرِ وُلَاتِهِمْ وَمُلُوكِهِمْ، فَإِنِ اسْتَقَامُوا اسْتَقَامَتْ مُلُوكُهُمْ، وَإِنْ عَدَلُوا عَدَلَتْ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ جَارُوا جَارَتْ مُلُوكُهُمْ وَوُلَاتُهُمْ، وَإِنْ ظَهَرَ فِيهِمْ –أَيْ: فِي الرَّعِيَّةِ- الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ، فَوُلَاتُهُمْ كَذَلِكَ.

وَإِنْ مَنَعُوا حُقُوقَ اللهِ لَدَيْهِمْ، وَبَخِلُوا بِهَا، مَنَعَتْ مُلُوكُهُمْ وَوُلَاتُهُمْ مَا لَهُمْ عِنْدَهُمْ مِنَ الْحَقِّ، وَبَخِلُوا بِهَا عَلَيْهِمْ، وَإِنْ أَخَذُوا مِمَّنْ يَسْتَضْعِفُونَهُ مَا لَا يَسْتَحِقُّونَهُ فِي مُعَامَلَتِهِ، أَخَذَتْ مِنْهُمُ الْمُلُوكُ مَا لَا يَسْتَحِقُّونَهُ، وَضَرَبَتْ عَلَيْهِمُ الْمُكُوسَ وَالْوَظَائِفَ، وَكُلُّ مَا يَسْتَخْرِجُونَهُ مِنَ الضَّعِيفِ –يَعْنِي: الرَّعِيَّةَ-، يَسْتَخْرِجُهُ الْمُلُوكُ مِنْهُمْ بِالْقُوَّةِ. فَعُمَّالُهُمْ ظَهَرَتْ فِي صُوَرِ أَعْمَالِهِمْ)).

عُمَّالُكُمْ أَعْمَالُكُمْ.

فَأَحْسِنُوا أَعْمَالَكُمْ!

اتَّقُوا اللهَ فِي أَنْفُسِكُمْ، فِي دِينِكُمْ!

تَمَسَّكُوا بِعَقِيدَتِكُمْ!

اتَّبِعُوا نَبِيَّكُمْ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-.

قَالَ: ((وَلَيْسَ فِي الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ أَنْ يُوَلَّى عَلَى الْأَشْرَارِ الْفُجَّارِ إِلَّا مَنْ يَكُونُ مِنْ جِنْسِهِمْ، وَلَمَّا كَانَ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ خِيَارَ الْقُرُونِ وَأَبَرَّهَا، كَانَتْ وُلَاتُهُمْ كَذَلِكَ، فَلَمَّا شَابُوا شِيبَتْ لَهُمُ الْوُلَاةُ.

فَحِكْمَةُ اللهِ تَأْبَى أَنْ يُوَلَّى عَلَيْنَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَزْمَانِ –وَهُوَ مِنْ أَبْنَاءِ الْقَرْنِ الثَّامِنِ-. قَالَ: فَحِكْمَةُ اللهِ تَأْبَى أَنْ يُوَلَّى عَلَيْنَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَزْمَانِ مِثْلُ مُعَاوِيَةَ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَضْلًا عَنْ مِثْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، بَلْ وُلَاتُنَا عَلَى قَدْرِنَا، وَوُلَاةُ مَنْ قَبْلَنَا عَلَى قَدْرِهِمْ، وَكُلٌّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ مُوجِبُ الْحِكْمَةِ وَمُقْتَضَاهَا.

وَمَنْ لَهُ فِطْنَةٌ إِذَا سَافَرَ بِفِكْرِهِ فِي هَذَا الْبَابِ رَأَى الْحِكْمَةَ الْإِلَهِيَّةَ سَائِرَةً فِي الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً فِيهِ كَمَا فِي الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ.

فَإِيَّاكَ أَنْ تَظُنَّ بِظَنِّكَ الْفَاسِدِ أَنَّ شَيْئًا مِنْ أَقْضِيَتِهِ وَأَقْدَارِهِ عَارٍ عَنِ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ، بَلْ جَمِيعُ أَقْضِيَتِهِ تَعَالَى وَأَقْدَارِهِ وَاقِعَةٌ عَلَى أَتَمِّ وُجُوهِ الْحِكْمَةِ وَالصَّوَابِ، وَلَكِنَّ الْعُقُولَ الضَّعِيفَةَ مَحْجُوبَةٌ بِضَعْفِهَا عَنْ إِدْرَاكِهَا، كَمَا أَنَّ الْأَبْصَارَ الْخُفَّاشِيَّةَ مَحْجُوبَةٌ بِضَعْفِهَا عَنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ، وَهَذِهِ الْعُقُولُ الصِّغَارُ إِذَا صَادَفَهَا الْبَاطِلُ جَالَتْ فِيهِ وَصَالَتْ، وَنَطَقَتْ وَقَالَتْ، كَمَا أَنَّ الْخُفَّاشَ إِذَا صَادَفَهُ اللَّيْلُ قَارَ وَسَارَ.

خَفَافِيشُ أَعْشَاهَا النَّهَارُ بِضَوْئِهِ = وَلَازَمَهَا قِطْعٌ مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمُ)).

هَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ، فَهَلَّا تَدَبَّرَهَا أَهْلُ الْإِسْلَامِ وَشَبِيبَتُهُ!

هَلَّا اتقَّوُا اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي أَوْطَانِهِمْ وَدِينِهِمْ وَمُسْتَقْبَلِهِمْ وَمُسْتَقْبَلِ أَبْنَائِهِمْ وَحَفَدَتِهِمْ!

هَلَّا اتَّقَوُا اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي هَذَا الدِّينِ الَّذِي حَمَّلَهُمُ اللهُ تَعَالَى مَسْئُولِيَّتَهُ فِي هَذَا الْعَصْرِ!

فَالْمُسْلِمُونَ يَحْمِلُونَ مَسْئُولِيَّةَ الدِّينِ فِي هَذَا الْعَصْرِ.

عِنْدَمَا يَضِيعُ الْإِسْلَامُ أَوْ تَضِيعُ أَرْضُهُ –حَاشَا لِلَّهِ أَنْ يَضِيعَ الْإِسْلَامُ-، وَلَكِنْ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَوْ فِي غَيْرِهِ عَلَى صُورَةٍ نِسْبِيَّةٍ فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ وَالْبُلْدَانِ، سَتَأْتِي أَجْيَالٌ وَسَنَمْضِي، نَمْضِي تَمَامًا كَالرِّمَالِ تَسْفِي بِهَا الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ، تُمْحَقُ عَلَى الْجَنَبَاتِ وَالطُّرُقَاتِ، وَتَعْصِفُ فِي جَنَبَاتِ فَلَوَاتِهَا الرِّيَاحُ مُدَمْدِمَةً كَأَنَّهَا زَمْزَمَةُ الْجِنِّ الْغَاضِبِ!

سَنَمُرُّ! وَلَنْ يَبْقَى مِنَّا أَحَدٌ؛ لَا مِنَ الْحُكَّامِ وَلَا مِنَ الْمَحْكُومِينَ.

وَأَمَّا مَا سُطِّرَ فِي صَحِيفَةِ الْحَسَنَاتِ أَوْ فِي صَحِيفَةِ السَّيِّئَاتِ فَأَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ، … وَأَمَّا التَّارِيخُ، … فَإِنَّهُ فِي الْجُمْلَةِ شَاهِدٌ لَا يَرْحَمُ، وَسَيَشْهَدُ بِالَّذِي يَكُونُ، ثُمَّ بَعْدَ حِينٍ يَسْتَشْهِدُ بِالَّذِي كَانَ، تُسْتَنْزَلُ اللَّعَنَاتُ عَلَى جِيلٍ فَاشِلٍ ضَعِيفٍ لَا رَأْيَ لَهُ، مُتَهَافِتٍ لَا يَتَمَاسَكُ، عَلَى جِيلٍ صُنِعَ عَلَى أَعْيُنِ الْأَعْدَاءِ!!

الرِّجَالُ فِيهِ كَالْأَطْفَالِ!

وَالشَّبَابُ فِيهِ كَالنِّسَاءِ وَالْبَنَاتِ؛ لَا عَزْمَ وَلَا هِمَّةَ، وَلَا قُوَّةَ تُلَاقِي الْمُلِمَّةَ، وَإِنَّمَا اسْتِسْلَامٌ خَانِعٌ لِأَفْكَارٍ كُفْرِيَّةٍ، وَمُوَاضَعَاتٍ شِرْكِيَّةٍ، وَيَدَعُونَ دِينَ الْحَقِّ الَّذِي هَدَى إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.

يَا أُمَّتِي! أَفِيقِي وَانْتَبِهِي!

يَا أُمَّتِي! اتَّقِي اللهَ فِي دِينِكِ!

وَاسْتَعِينِي بِاللَّهِ فِي يَقِينِكِ!

وَسِيرِي عَلَى هَدْيٍ مِنْهُ وَهُدًى!

وَاللَّهُ يَرْعَاكِ وَيَتَوَلَّاكِ، وَيُسَدِّدُ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ خُطَاكِ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.


تحميل الإصدار PDF

تحميل الإصدار مضغوطًا ZIP

‫6 تعليقات

  1. السلام عليكم ورحمة الله
    بارك الله في جهودكم
    لي سؤال : هل تم الغاء الدورة الدراسية أم مجرد تأخير في اعلان المقبولين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى