إصدارات PDF

الإسراء والمعراج بين أهل المنهج المتين وأهل البدع القصاصين

الآن ؛ إصدار مؤسسة منهاج الأنبياء الثاني عشر المقروء

العنوان:-
(الإسْرَاءُ والْمِعْرَاجُ بيْنَ أهْلِ المَنْهجِ المَتِين وأهْلِ البدَعِ القَصَّاصِين)

الشيوخ:-
– الشيخ العلَّامة/ مُحَمَّد خَليلُ هَرَّاس -رحِمَهُ اللهُ-
– الشيخ العلَّامة/ حَافِظُ بنُ أحْمَد الحَكَمِيُّ -رحِمَهُ اللهُ-

نبذة عن الإصدار:-
إيمانـًا منّا بأنَّ (البيَانُ عِنْدَ وَقْتِ الحَاجَةِ) واجب ولا بُدَّ منه :
ففي هذا الشهر الحرام عامَّة ، وهذه الأيام التي نحياها جميعًا
يستغلُّها بعض المُضلين في نشر بدعهم وضلالهم المنشود!
أمثال: ( الصوفية – القصاصين، وغيرهم من أهل البدع )

فيحتفلون في ليلة 27 من رجب مُدَّعين أن هذه الليلة
هي ليلة ( الإسراء والمعراج ) وهذا كذب محض لا يقوم به برهان.
وينشرون القصص الواهية الكاذبة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

تحميل الملف PDF

تحميل الملف مضغوطًا 


فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الْإِسْرَاء:1]، هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ، وَالَّتِي تُسَمَّى أَيْضًا سُورَةُ (بَنِي إِسْرَائِيلَ)، فِيهَا تَصْرِيحٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى جَدَلٍ وَلَا إِلَى تَأْوِيلٍ، بِأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ أَسْرَى بِعَبْدِهِ، يَعْنِي سَارَ لَيْلًا بِعَبْدِهِ مُحَمَّدٍ-صَلَّى الْلَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي بِمَكَّةَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بِالشَّامِ، وَأَنَّهُ جَعَلَ هَذَا الْإِسْرَاءَ لِحِكْمَةٍ عَظِيمَةٍ وَهُوَ أَنْ يُرِيَ عَبْدَهُ مُحَمَّدًا -صَلَّى الْلَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- مِنْ آيَاتِهِ الْكُبْرَى، ثُمَّ خَتَمَ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ بِاسْمَيْنِ كَرِيمَيْنِ مِنْ أَسْمَاءِهِ سُبْحَانَهُ، فَقَالَ: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، السَّمِيعُ لِأَقْوَالِ عِبَادِهِ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ مُصَدِّقِهِمْ وَمُكَذِّبِهِمْ، وَالْبَصِيرُ بِأَحْوَالِهِمُ الْمُطَّلِعُ عَلَى أَعْمَالِهِمْ فَيَجْزِيهِمْ بِهَا يِوْمَ الْقِيَامَةِ، يَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ.

كَانَتْ حَادِثَةُ الْإِسْرَاءِ حَقًّا لَا رَيْبَ فِيهِ بِمَنْطُوقِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، فَلَا لَجَاجَةَ وَلَا مُكَابَرَةَ فِي وُقُوعِ الْإِسْرَاءِ بَعْدَمَا أَخْبَرَ عَنْهَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، وَكُلُّ جَحْدٍ وَإِنْكَارٍ لِلْإِسْرَاءِ فَهُوَ كُفْرٌ بِاللَّهِ وَتَكْذِيبٌ بِصَرِيحِ الْقُرْآنِ، لَكِنَّ النَّاسَ قَدْ يَخْتَلِفُونَ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، بَعْدَ أَنْ يُؤْمِنُوا بِوُقُوعِ الْإِسْرَاءِ يَحْلُو لَهُمْ أَنْ يَخْتَلِفُوا هَذَا الِاخْتِلَافَ:

هَلْ كَانَ الْإِسْرَاءُ بِالْجَسَدِ وَالرُّوحِ مَعًا؟

أَوْ كَانَ بِالرُّوحِ وَحْدَهَا؟

وَإِذَا كَانَ بِالرُّوحِ وَحْدَهَا؛ فَهَلْ كَانَ يَقَظَةً أَوْ مَنَامًا؟

نَحْنُ وَإِنْ كُنَّا لَا نُخْرِجُ أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُخْتَلِفِينَ مِنْ دَائِرَةِ الْإِسْلَامِ بَعْدَمَا آمَنُوا بِالْإِسْرَاءِ، لَكِنَّنَا نَدْعُو كُلَّ النَّاسِ إِلَى أَنْ يُؤْمِنُوا بِمَا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، فَلَيْسَ كُلُّ قَوْلٍ يُقَالُ قَدْ يَكُونُ حَقًّا بَلْ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُوَازِنَ بَيْنَ الْأَقْوَالِ وَالْآرَاءِ، وَأَنْ نُرَجِّحَ أَقْرَبَهَا إِلَى النَّصِّ، فَكُلَّمَا قَرُبَ الرَّأْيُ مِنَ النَّصِّ وَمِنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الصَّوَابِ.


إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَفْسَهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِسْرَاءَ كَانَ بِالْجَسَدِ وَالرُّوحِ جَمِيعًا، وَأَنَّهُ كَانَ يَقَظَةً لَا مَنَامًا، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْدَؤُهَا بِالسُّبْحَانِ فَيُسَبِّحُ نَفْسَهُ، وَالتَّسْبِيحُ لَا يَكُونُ إِلَّا عِنْدَ الْأَمْرِ الْعَجِيبِ الَّذِي فِيهِ غَرَابَةٌ، وَلَوْ كَانَ الْإِسْرَاءُ بِالرُّوحِ وَحْدَهَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ عَجَبٌ وَلَا غَرَابَةٌ، ثُمَّ يَقُولُ سُبْحَانَهُ: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ} وَلَفْظُ الْعَبْدِ إِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى مَجْمُوعِ الْبَدَنِ وَالرُّوحِ، يُطْلَقُ عَلَى الشَّخْصِ كُلِّهِ، فَلَا يُقَالُ لِلرُّوحِ وَحْدَهَا عَبْدٌ، وَإِنَّمَا يُقَالُ عَبْدٌ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ الشَّخْصُ كُلُّهُ بِجَسَدِهِ وَرُوحِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} وَهُنَا تَحْدِيدٌ لِابْتِدَاءِ الرِّحْلَةِ وَنِهَايَتِهَا، ثُمَّ يَقُولُ: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} وَالْإِرَاءَةُ إِنَّمَا تَكُونُ لِلْعَيْنِ وَلِلْبَصَرِ، فَهَذَا هُوَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وَهُنَاكَ دَلَائِلُ أُخْرَى تَشْهَدُ لِهَذَا، وَهُوَ مَا وَرَدَ فِي أَحَادِيثِ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ اَلْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهَا مِنْ أَنَّهُ-صَلَّى الْلَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- أُتِيَ بِالْبُرَاقِ، وَالْبُرَاقُ: دَابَّةٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى رُكُوبِهَا إِلَّا الْبَدَنُ، فَالرُّوحُ فِي مَسْرَاهَا لَيْسَتْ بِحَاجَةٍ إِلَى مَرْكَبٍ تَرْكَبُهُ، ثُمَّ مَا وَرَدَ كَذَلِكَ مِنِ اسْتِهْزَاءِ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا أَخْبَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ-صَلَّى الْلَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- بِأَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ اللَّيْلَةَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَعَجِبُوا لِهَذَا أَشَدَّ الْعَجَبِ وَأَنْكَرُوهُ أَعْظَمَ الْإِنْكَارِ، وَلَوْ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: رَأَيْتُ فِي مَنَامِي أَنَّنِي ذَهَبْتُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ أَنَّنِي صَعَدْتُ إِلَى السَّمَاءِ، لَمَا كَانَ هُنَاكَ عَجَبٌ وَلَا إِنْكَارٌ، وَإِنَّمَا انْصَبَّ إِنْكَارُهُمْ وَعَجَبُهُمْ لِأَنَّهُ قَالَ: (أُسْرِيَ بِي) أَيْ: بِجَسَدِي وَشَخْصِي، فَهَذَا هُوَ الَّذِي جَعَلَهُمْ يَعْجَبُونَ وَيَسْتَهْزِؤُونَ، وَيَقُولُونَ لَهُ: (نَحْنُ نَضْرِبُ أَكْبَادَ الْإِبِلِ شَهْرًا مُصْعَدَةً وَشَهْرًا قَافِلَةً، ثُمَّ تَزْعُمُ أَنْتَ أَنَّكَ ذَهَبْتَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَرَجَعْتَ مِنْ لَيْلَتِكَ فَبِتَّ فِينَا؟!)، هَذَا هُوَ مَوْضِعُ الْعَجَبِ وَمَوْضِعُ الْإِنْكَارِ.


كَانَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ -كَمَا يَقُولُ الْمُؤَرِّخُونَ- قَبْلَ الْهِجْرَةِ الْمُبَارَكَةِ بِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ إِلَى التَّحْقِيقِ، لِأَنَّهُ قَوْلُ الثِّقَاتِ مِنَ الْمُؤَرِّخِينَ، وَقِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَالْخِلَافُ هُنَا هَيِّنٌ وَيَسِيرٌ، لَكِنْ إِذَا جَرَيْنَا عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ، كَانَ مَعْنَاهَا أَنَّهَا وَقَعَتْ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْهِجْرَةَ كَانَتْ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا إِذَا جَرَيْنَا عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا وَهَذَا قَوْلُ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ السُّدِّيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ فِي رِوَايَتِهِ، كَانَ الْإِسْرَاءُ أَوْ حَادِثَةُ الْإِسْرَاءِ فِي رَجَبٍ، كَمَا اعْتَادَ النَّاسُ أَنْ يَحْتَفِلُوا بِهَا فِي شَهْرِ رَجَبٍ، وَمِنَ الْعَجَبِ أَنْ يُعَيِّنُوا لَيْلَةً مِنْ رَجَبٍ هِيَ لَيْلَةُ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ لِيَقُولُوا إِنَّ الْوَاقِعَةَ وَقَعَتْ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وَلَيْسَ لِهَذَا أَيُّ سَنَدٍ صَحِيحٍ بِالْمَرَّةِ، حَتَّى لَوْ جَرَيْنَا عَلَى أَنَّ الْحَادِثَةَ وَقَعَتْ فِي رَجَبٍ، فَلَيْسَ هُنَاكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا وَقَعَتْ فِي السَّبْعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ.


فِي هَذِهِ الْمِحَنِ الْقَاسِيَةِ وَفِي هَذِهِ الظُّرُوفِ الْعَصِيبَةِ تَقَعُ حَادِثَةُ الْإِسْرَاءِ تَسْلِيَةً لِقَلْبِ رَسُولِ اللَّهِ، فَلَا إِغْرَاءَ بِالْمَالِ، وَلَا إِغْرَاءَ بِالْمُلْكِ، وَلَا إِغْرَاءَ بِالسِّيَادَةِ، كَمَا لَا يَرْهَبُهُ فِي سَبِيلِهِ تَهْدِيدٌ وَلَا وَعِيدٌ، فَكَانَتْ حَادِثَةُ الْإِسْرَاءِ هِيَ النَّوْطُ الْإِلَهِيُّ الَّذِي عَلَّقَتْهُ السَّمَاءُ بِصَدْرِ رَسُولِ اللَّهِ-صَلَّى الْلَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-، وَكَانَتْ هِيَ حَفْلُ التَّكْرِيمِ الَّذِي قُدِّمَ لِهَذَا الرَّسُولِ الْعَظِيمِ فِي مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، كَانَتْ إِرْهَاصًا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِأَنَّ هَذَا الدِّينَ الْجَدِيدَ سَوْفَ لَنْ يَبْقَى حَبِيسًا بِمَكَّةَ يُضَيِّقُ عَلَيْهِ الْكُفَّارُ الْخِنَاقَ بَلْ إِنَّهُ سَيَمْتَدُّ وَيَمْتَدُّ، سَيَمْتَدُّ إِلَى الْمَدِينَةِ أَوَّلًا، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهَا فَاتِحًا ظَافِرًا يَمْلَأُ الدُّنْيَا كُلَّهَا عَدْلًا وَنُورًا، بَعْدَ أَنْ مُلِئَتْ ظُلْمًا وَجَوْرًا، كَانَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ رَبْطًا مِنْ اللَّهِ لِرِسَالَاتِ السَّمَاءِ، فَقَدْ كَانَتْ هُنَاكَ بِالشَّامِ رِسَالَاتُ الرُّسُلِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَبْنَاءِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، فَالشَّامُ هِيَ مَعْدِنُ الْأَنْبِيَاءِ وَمَهْبِطُ الرِّسَالَاتِ عَلَيْهِمْ، فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَجْمَعَ هَذِهِ النُّبُوَّةَ الْجَدِيدَةَ إِلَى تِلْكَ النُّبُوَّاتِ الْقَدِيمَةِ، وَأَنْ تَلْتَقِيَ بِهَا فِي مَهْدِهَا الْأَوَّلِ إِشَارَةً إِلَى وَحْدَةِ دِينِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ دِينٌ وَاحِدٌ لِلْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، لَيْسَ فِيهِ فُرْقَةٌ وَلَا اخْتِلَافَ، فَدَعْوَةُ نُوحٍ هِيَ بِعَيْنِهَا دَعْوَةُ هُودٍ؛ هِيَ بِعَيْنِهَا دَعْوَةُ صَالِحٍ أَخِي ثَمُودَ، هِيَ بِعَيْنِهَا دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ سَارَتْ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ فِي عَقِبِ إِبْرَاهِيمَ حَتَّى انْتَهَتْ فِي مَسْرَاهَا إِلَى نَبِيِّنَا-صَلَّى الْلَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- فَتَلَقَّاهَا كَأَحْسَنِ مَا يَكُونُ التَّلَقِّي، وَقَامَ بِهَا كَأَحْسَنِ مَا يَكُونُ الْقِيَامُ، فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُرِيَهُ دَارَ الرِّسَالَاتِ وَمَهْبِطَ النُّبُوَّاتِ، وَأَنْ يُبَشِّرَهُ بِأَنَّ دِينَهُ سَيَحُلُّ هَذِهِ الْأَرْضَ، وَسَتَصِيرُ وِلَايَاتٍ إِسْلَامِيَّةً يَحْكُمُهَا الْخَلِيفَةُ الْمُسْلِمُ الَّذِي يُقِيمُ بِالْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ، هَكَذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَجْمَعَ الرِّسَالَاتِ كُلَّهَا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، لِيُخْبِرَ وَيُعْلِنَ أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ، وَأَنَّهُ الدِّينُ الْوَاحِدُ الَّذِي بُعِثَتْ بِهِ كُلُّ الرُّسُلِ -عَلَيْهِمْ الصَّلَاةَ وَالسَّلَامَ-، مَاذَا كَانَ مِنْ شَأْنِ تِلْكَ الرِّحْلَةِ لَقَدْ تَحَدَّثَ الْقُرْآنُ كَمَا قُلْنَا عَنِ الرِّحْلَةِ الْأَرْضِيَّةِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَهُنَا يَقِفُ بَعْضُ النَّاسِ وَلَا يُرِيدُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى مَا قَالَ الْقُرْآنُ، وَيُرِيدُ أَنْ يُنْكِرَ خَبَرَ الرِّحْلَةِ السَّمَاوِيَّةِ فَلَا يَعْتَرِفُ وَلَا يُقِرُّ بِأَنَّهُ -صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ- فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَوَاتِ الْعُلَى حَتَّى وَصَلَ إِلَى مُسْتَوًى سَمِعَ فِيهِ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ، لَا، بَلِ الرِّحْلَةُ السَّمَاوِيَّةُ كَالرِّحْلَةِ الْأَرْضِيَّةِ كِلَاهُمَا حَقٌّ وَكِلَاهُمَا وَاقِعٌ، وَمَنْ يُنْكِرُ وَيَجْحَدُ الرِّحْلَةَ السَّمَاوِيَّةَ فَقَدْ جَحَدَ الْأَخْبَارَ الَمْتُوَاتِرَةَ الَّتِي امْتَلَأَتْ بِهَا دَوَاوِينُ السُّنَّةِ، وَالَّتِي رُوِيَتْ عَنْ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ صَحَابِيًّا، فَأَحَادِيثُ الْمِعْرَاجِ لَا تُحْصَى كَثْرَةً وَقَدِ اتَّفَقَتْ فِي مَا بَيْنَهَا عَلَى أَشْيَاءَ، وَلَمْ يَقَعْ بَيْنَهَا إِلَّا يَسِيرُ خِلَافٍ فِي الْأَلْفَاظِ أَوْ زِيَادَةٍ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَنَقْصٍ فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ، وَمَا كَانَ هَذَا لِيَضِيرَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ وَلَا لِيَحْمِلَنَا عَلَى إِنْكَارِهَا وَجَحْدِهَا، بَلْ نَحْنُ نُصَدِّقُ وَنُؤْمِنُ بِالْمِعْرَاجِ الَّذِي تَوَاتَرَ الْخَبَرُ بِهِ، وَالَّذِي تُشِيرُ إِلَيْهِ آيَاتُ النَّجْمِ إِذْ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا بِصَرِيحِ الْعِبَارَةِ: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقْ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَى فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} مَاذَا يَقُولُ الْجَاحِدُونَ؟ مَاذَا يَقُولُ الْمُكَابِرُونَ؟ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ رَآهُ} أَيْ: رَأَى مُحَمَّدٌ جِبْرِيلَ -عَلَيْهِمَا اَلسَّلَامُ- نَزْلَةً أُخْرَى فِي صُورَتِهِ الْمَلَكِيَّةِ {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ تُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ عَلَى مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ رَآهُ لَكِنْ رَآهُ رُؤْيَا مَنَامٍ، أَوْ رُؤْيَا رُوحٍ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رَدًّا وَدَفْعًا لِمَنْ يُنْكِرُ أَنَّ مُحَمَّدًا-صَلَّى الْلَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- رَأَى جِبْرِيلَ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى بِبَصَرِهِ لَا رُؤْيَا مَنَامٍ وَلَا رُؤْيَا بِالرُّوحِ، يَقُولُ: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} وَمَعَ ذَلِكَ هَا نَحْنُ نَرَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ صَرِيحَةٌ كَصَرِيح الْإِسْرَاءِ، كَمَا صَرَّحَتْ آيَاتُ الْإِسْرَاءِ بِالْإِسْرَاءِ، فَقَدْ صَرَّحَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ بِالْمِعْرَاجِ ثَمَّ الْأَحَادِيثُ الَّتِي لَا تُحْصَى كَثْرَةً عَنْ نَفَسِ الْمِعْرَاجِ لَهُ -صَلَّى الْلَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- وَصُعُودِهِ عَلَيْهِ وَهِيَ أَحَادِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا فِي دَوَاوِينِ السُّنَّةِ كُلِّهَا، وَبِحَسْبِهَا مِنَ الْقُوَّةِ أَنْ يَرْوِيَهَا الشَّيْخَانِ اللَّذَانِ اتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ عَلَى قَبُولِ رِوَايَتِهِمَا، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ: إِنَّ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ يُفِيدُ الْقَطْعَ كَالْقُرْآنِ، وَلَا يَجُوزُ أَبَدًا رَدُّ حَدِيثٍ وَرَدَ فِي الشَّيْخَيْنِ وَاتَّفَقَتْ عَلَيْهِ رِوَايَتَاهُمَا بَلْ يَجِبُ أَخْذُهُ بِالْقَبُولِ وَالتَّسْلِيمِ، فَكَيْفَ وَهِيَ لَيْسَتْ رِوَايَةً وَاحِدَةً فِي كُلٍّ مِنْهُمَا بَلْ هِيَ رِوَايَاتٌ وَرِوَايَاتٌ، غَيْرَ مَا يُوجَدُ فِي دَوَاوِينِ السُّنَّةِ مِنْ مُسْنَدِ أَحْمَدَ؛ أَوْ أَبِي يَعْلَى؛ أَوْ أَبِي دَاوُدَ؛ أَوِ التِّرْمِذِيِّ، أَوْ غَيْرِهَا مِنْ كُتُبِ السُّنَّةِ، فَهُوَ أَمْرٌ اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ، وَأَجْمَعَتْ عَلَيْهِ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَفِي كُلِّ جِيلٍ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ إِلَّا مَلَاحِدَةٌ مُعَطِّلُونَ جَاحِدُونَ لَا يَرُوقُ لَهُمْ إِلَّا الْإِنْكَارَ وَإِلَّا الجَحْدَ مَهْمَا أَقَمْتَ لَهُمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ.


تحميل الملف PDF

تحميل الملف مضغوطًا 

‫7 تعليقات

اترك رداً على السلفيه إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى